الكلمة الحادية والعشرون: رؤية الله تعالى
الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن أعظم نعيم لأهل الجنة: رؤية اللَّه تعالى، وهي الغاية التي شمَّر لها المشمِّرون وتنافس فيها المتنافسون، وحُرِمَها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون؛ قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (٢٣)} [القيامة]، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (٢٣)}: «تنظر إلى ربها عزَّ وجلَّ»(١).
وقال تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد} [ق]، قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك رضي اللهُ عنهما: «المزيد: هو النظر إلى اللَّه عزَّ وجلَّ»(٢)، وقال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦]، والحُسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم، فسَّرها بذلك رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ روى مسلم في صحيحه من حديث صهيب رضي اللهُ عنه: عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ»، قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ»(٣).
وزاد: ثم تلا هذه الآية {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وكذلك فسرها الصحابة رضي اللهُ عنهم؛ روى ذلك ابن جرير عن جماعة منهم: أبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس رضي اللهُ عنهم(٤).
وقال تعالى: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون (١٥)} [المطففين]، احتج بها بعض السلف على الرؤية لأهل الجنة.
قال الشافعي: في هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عزَّ وجلَّ يومئذ.
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية كما دلَّ عليه منطوق قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (٢٣)} [القيامة]، وكما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عزَّ وجلَّ في الدار الآخرة، رؤية بالأبصار في عرصات القيامة، وفي روضات الجنان الفاخرة(٥).
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: وعذاب الحجاب من رب العالمين المتضمن لسخطه وغضبه عليهم هو أعظم عليهم من عذاب النار، ودل مفهوم الآية على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة، ويتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات، ويبتهجون بخطابه ويفرحون بقربه، كما ذكر اللَّه ذلك في عدة آيات من القرآن، وتواتر فيه النقل عن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم(٦). اهـ.
قال في شرح الطحاوية: وأما الأحاديث عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة: رواها أصحاب الصحاح والمسانيد، وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيًّا، ومن أحاط بها يقطع بأن الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالها؛ بل في هذه الأحاديث - مع إثبات الرؤية -: أنه يكلِّم من شاء إذا شاء، وأنه يأتي الخلق لفصل القضاء يوم القيامة، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه مَن بَعُدَ كما يسمع من قَرُبَ، وأنه يتجلَّى لعباده، وأنه يضحك، إلى غير ذلك من الصفات التي ثبتت بالكتاب والسنة(٧). اهـ.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ » قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ» قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ»(٨).
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي اللهُ عنه: عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ: آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ: آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ: إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»(٩).
وقد ورد في حديث صهيب المتقدم: ما يدل على أن المراد برداء الكبرياء في حديث أبي موسى: الحجاب، وأنه سبحانه يكشفه لأهل الجنة إكرامًا لهم فيرونه سبحانه.
من الأسباب الموجبة لرؤية اللَّه تعالى:
أولاً: الإيمان باللَّه وتوحيده، قال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦]، والإحسان أعلى مراتب الإيمان.
ثانيًا: المحافظة على صلاة الفجر وصلاة العصر؛ روى البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد اللَّه رضي اللهُ عنه قال: كنا جلوساً عند رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، فَافْعَلُوا» يعني العصر والفجر؛ ثم قرأ جرير: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: ١٣٠](١٠).
ثالثًا: الابتعاد عن المعاصي والذنوب، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر الغفاري رضي اللهُ عنه: عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ»(١١).
رابعاً: الدعاء قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون} [البقرة].
روى النسائي في سننه من حديث عمار بن ياسر رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يدعو بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى؛ وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ»(١٢).
والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) زاد المسير (٨/ ٤٢٢).
(٢) المصدر السابق (٨/ ٢١).
(٣) ص: ٩٩، برقم ١٨١.
(٤) جامع البيان (٥/ ٤١٩٨ - ٤٢٠١).
(٥) تفسير ابن كثير (١٤/ ٢٨٧).
(٦) تفسير ابن سعدي ص: ٨٧٥.
(٧) شرح العقيدة الطحاوية ص: ٢٠٩ - ٢١٠، بتصرف.
(٨) ص: ١٢٥٧ برقم ٦٥٧٣، وصحيح مسلم ص: ٩٩ برقم ٢٩٩.
(٩) ص: ٩٥٩ برقم ٤٨٧٨، وصحيح مسلم ص: ١٧٨ برقم ١٨٠.
(١٠) ص: ١٢٨ برقم ٥٧٣، وصحيح مسلم ص: ٢٤٩ برقم ٦٣٣ واللفظ له.
(١١) ص: ٦٨، ٦٩، برقم ١٠٦.
(١٢) ص: ١٥٤ برقم ١٣٠٥، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في «صحيح الجامع الصغير» برقم ١٣٠١.