الكلمة الحادية والثلاثون: رضوان الله
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من أعظم نعيم أهل الجنة أن اللَّه يرضى عنهم فلا يسخط عليهم أبدًا، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (٧٢)} [التوبة].
قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ} أي: رضوان اللَّه عليهم أكبر مما هم فيه من النعيم، فإن نعيمهم لم يطب إلا برؤية ربهم ورضاه عنهم؛ فَرِضَا اللَّه رب السماوات أكبر من نعيم الجنات، وقال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد (١٥)} [آل عمران].
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة (٧) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه (٨)} [البينة].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ؟ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ ! فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ ! فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا»(١).
من أسباب رضا اللَّه عن العبد في الدنيا والآخرة:
أولاً: الإيمان باللَّه والعمل الصالح، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة (٧) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه (٨)} [البينة].
ثانيًا: بذل النفس للَّه تعالى ولرسوله، والذَّب عن دينه، والجهاد في سبيله، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨)} [الفتح].
ثالثًا: البراءة من الشرك والمشركين وإظهار عداوتهم، قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون (٢٢)} [المجادلة]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - عن الذين اتصفوا بالصفات السابقة في الآية -: لهم أكبر النعيم وأفضله وهو أن اللَّه يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدًا، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات ووافر المثوبات وجزيل الهبات ورفيع الدرجات، بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا فوقه نهاية(٢).
رابعًا: الكلمة الطيبة: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بلال بن الحارث رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(٣).
خامسًا: الإحسان والصدقة، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (١٠٠)} [التوبة].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا» الحديث، وفي آخره: قال الملك للأعمى: «أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ»(٤).
سادسًا: حمد اللَّه وشكره على النعم؛ روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَاكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»(٥).
سابعاً: رضا الوالدين، روى الترمذي في سننه من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللهُ عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «رِضَى الرَّبِّ فِي رَضِى الوَالِدِ وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الوَالِدِ»(٦).
ثامناً: الرضا بقضاء اللَّه وقدره، روى الترمذي في سننه من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»(٧).
تاسعاً: استعمال السواك، روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عن السواك: «مَطْهَرَةٌ للفَمِ، مَرْضَاةٌ للرَّبِّ»(٨).
ولو تتبعنا النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لوجدنا الكثير فيها.
وينبغي للعبد أن يسعى إلى رضا اللَّه، ولو كان ذلك بسخط الناس؛ روى الإمام الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ»(٩).
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) ص: ١٢٥٤ برقم ٦٥٤٩، وصحيح مسلم ص: ١١٣٧ برقم ٢٨٢٩.
(٢) تفسير ابن سعدي ص: ٨١١.
(٣) (٢٥/ ١٨٠) برقم ١٥٨٥٢، وقال محققوه: إسناده صحيح لغيره.
(٤) ص: ٦٦٧ برقم ٣٤٦٤، وصحيح مسلم ص: ١١٨٩ برقم ٢٩٦٤.
(٥) ص: ١٠٩٤ برقم ٢٧٣٤.
(٦) ص: ٣٢١ برقم ١٨٩٩، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (٢/ ٤٥) برقم ٥١٥.
(٧) ص: ٣٩٣ برقم ٢٣٩٦، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (٣/ ٢٢٠) برقم ١٢٢٠.
(٨) ص: ٣٦٧ باب السواك الرطب واليابس للصائم.
(٩) ص: ٣٩٥ برقم ٢٤١٤، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (٥/ ٣٩٢) برقم ٢٣١١.