الكلمة السادسة والثلاثون: كفارات الذنوب رقم (٢)
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فقد ذكر شارح الطحاوية: أن من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم، بنحو عشرة أسباب، عُرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة:
أولاً: التوبة الصادقة، قال تعالى: {إِلَاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (٧٠)} [الفرقان]. وقال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (٥٣)} [الزمر]. وهذا لمن تاب؛ ولهذا قال: {لَا تَقْنَطُوا}، وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: ٥٤].
ثانيًا: الاستغفار، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون (٣٣)} [الأنفال].
روى الإمام أبو داود في سننه من حديث زيد رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ»(١).
ثالثًا: الحسنات، فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين (١١٤)} [هود]. روى الترمذي في سننه من حديث أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي اللهُ عنهما: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»(٢).
رابعًا: المصائب، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: لما نزلت {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: ١٢٣]، بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا، أَوِ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا»(٣).
خامسًا: دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (١٠)} [الحشر]. وقال تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: ٢٨].
سادسًا: ما يُهدَى الميت بعد الموت من ثواب صدقة، أو حج، أو نحو ذلك؛ روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ»(٤).
وفي صحيح البخاري أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي اللهُ عنه - أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ - تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّيَ تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَل يَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِي الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا(٥).
سابعًا: عذاب القبر.
ثامنًا: أهوال يوم القيامة وشدائده.
تاسعًا: ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ، مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا»(٦).
عاشرًا: شفاعة الشافعين؛ كشفاعة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والنبيين، وشفاعة الملائكة، وشفاعة المؤمنين.
الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين، كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: ١١٦].
قال شارح الطحاوية: فإن كان ممن لم يشأ اللَّه أن يغفر له لعظم جرمه، فلا بد من دخوله إلى الكير أي: (النار)، ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه؛ فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى، أدنى، أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا اللَّه، كما تقدم من حديث أنس رضي اللهُ عنه في الصحيحين.
وإذا كان الأمر كذلك، امتنع القطع لأحد معيَّن من الأمَّة، غير من شهد له الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنة. ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم، ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم - أي من مكر اللَّه -، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم - أي من رحمة اللَّه -(٧). اهـ.
وعلى ذلك، فقول بعض الناس: فلان لا يغفر اللَّه له، أو فلان من أفجر الناس: هو من أهل النار، أو فلان طيِّب، ورجل صالح: هو من أهل الجنة؛ كل هذه الألفاظ لا تجوز، لمخالفتها للنصوص الشرعية، ولعقيدة أهل السنة والجماعة.
روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ؛ فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؛ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ».
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ: أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ(٨)(٩).
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) ص: ١٨٠ برقم ١٥١٧، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (١/ ٢٨٣) برقم ١٣٤٣.
(٢) ص: ٣٣٢ برقم ١٩٨٧، وقال: حديث حسن صحيح.
(٣) ص: ١٠٣٩ برقم ٢٥٧٤.
(٤) ص: ٣٨٨ برقم ١٠٠٤، وصحيح البخاري ص: ٢٧٠ برقم ١٣٨٨.
(٥) ص: ٥٣٢ برقم ٢٧٦٢.
(٦) ص: ١٢٥٢ برقم ٦٥٣٥.
(٧) (٢/ ٤٤٨ - ٤٥٦).
(٨) ص: ٥٣٢ برقم ٤٩٠١، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (٣/ ٩٢٦) برقم ٤٠٩٧.
(٩) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص: ٣٦٧ - ٣٧١.