الكلمة السابعة والسبعون: شرح اسم الله الشهيد
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد،
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»(١).
ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في الكتاب والسنة: الشهيد، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: ١٩]. وقال سبحانه: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٩٦)} [الإسراء].
قال الزجاج: الشهيد الحاضر(٢)، وقال الزجاجي: الشهيد في اللغة بمعنى الشاهد كما أن العليم بمعنى العالم والشاهد خلاف الغائب كقول العرب: فلان كان شاهداً لهذا الأمر أي لم يغب عنه(٣).
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم: أولاً: أن اللَّه عزَّ وجلَّ هو عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء وإن دق وصغر، فهو سبحانه شهيد على العباد وأفعالهم ليس بغائب عنهم، كما قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِين (٧)} [الأعراف]. فينبغي لكل عامل أراد عملاً صغر العمل أو كبر أن يقف وقفة عند دخوله فيه فيعلم أن اللَّه شهيد عليه فيحاسب نفسه فإن كان دخوله فيه للَّه مضى فيه، وإلا رد نفسه عن الدخول فيه وتركه(٤).
وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (٦١)} [يونس].
روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: خطب رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ثم قال: {كَمَا بَدَانَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِين (١٠٤)} [الأنبياء]. ثم قال: «أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلَائِقِ يُكسَى يَومَ القِيَامَةِ إِبرَاهِيمُ، أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِن أُمَّتِي فَيُؤخَذُ بِهِم ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدرِي مَا أَحدَثُوا بَعدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبدُ الصَّالِحُ: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد (١١٧)} [المائدة] فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَم يَزَالُوا مُرتَدِّينَ عَلَى أَعقَابِهِم مُنذُ فَارَقتَهُم»(٥).
ثانياً: أن اللَّه سبحانه وتعالى أعظم شيء شهادة كما قال سبحانه: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لَاّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون (١٩)} [الأنعام]. قال ابن جرير: يقول اللَّه تعالى ذكره لنبيه محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبون ويجحدون بنبوتك من قومك: أي شيء أعظم شهادة وأكبر؟ ثم أخبرهم بأن أكبر الأشياء شهادة هو اللَّه الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقع في شهادة غيره من خلقه من السهو والخطأ والغلط والكذب(٦).
ثالثاً: شهد اللَّه سبحانه وتعالى لنفسه بأنه واحد أحد، فرد صمد لا شريك له ولا وزير ولا ند ولا نظير، وشهدت ملائكته وأولو العلم بذلك كما في قوله جل شأنه: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (١٨)} [آل عمران]. فتضمنت الآية أعظم شهادة من أعظم شهيد.
رابعاً: أن اللَّه تعالى هو الشهيد على أفعال العباد وأقوالهم ويتجلى ذلك يوم القيامة عند محاسبتهم وتقرير أحوالهم. روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك قال: كنا عند رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضحك فقال: «هَل تَدرُونَ مِمَّ أَضحَكُ؟ » قال: قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: «مِن مُخَاطَبَةِ العَبدِ رَبَّهُ»، يقول: «يَا رَبِّ! أَلَم تُجِرنِي مِنَ الظُّلمِ؟ » قال: «يَقُولُ: بَلَى»، قال: «فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفسِي إِلَّا شَاهِداً مِنِّي»، قال: «فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ شَهِيداً، وَبِالكِرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُوداً»، قال: «فَيُختَمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لِأَركَانِهِ: انطِقِي»، قال: «فَتَنطِقُ بِأَعمَالِهِ»، قال: «ثُمَّ يُخَلَّى بَينَهُ وَبَينَ الكَلَامِ» قال: «فَيَقُولُ: بُعداً لَكُنَّ وَسُحقاً، فَعَنكُنَّ كُنتُ أُنَاضِلُ»(٧).
قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون (٦٥)} [يس].
خامساً: أن من أعظم ثمرات الإيمان بهذا الاسم أن يستحضر العبد شهود اللَّه له عند كل عمل يعمله أو كلاماً يقوله أو نية يعقدها، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (٧)} [المجادلة](٨).
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(١) ص: ٥٢٦ برقم ٢٧٣٦، وصحيح مسلم ص: ١٠٧٦ برقم ٢٦٧٧.
(٢) تفسير الأسماء للزجاج ص: ٥٣.
(٣) اشتقاق الأسماء للزجاجي ص: ١٣٢ نقلاً عن كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى (١/ ٤٣٩) بتصرف.
(٤) النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى (١/ ٤٤٣): نقلاً عن كتاب الحجة في بيان المحجة للأصبهاني.
(٥) ص: ٨٨٠ برقم ٤٦٢٥، وصحيح مسلم ص: ١١٤٧ برقم ٢٨٦٠.
(٦) تفسير ابن جرير (٥/ ١٦١).
(٧) ص: ١١٩١ برقم ٢٩٦٩.
(٨) انظر: النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى للنجدي (١/ ٤٣٩ - ٤٥١).